اليابان و كوريا أم أمريكا وأوروبا

كنت أظن فيما أعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحتلان الدرجة الأولى في تسجيل براءات الاختراع عالمياً، وربما تكوَن هذا الظن لدي من التأكيدات الإعلامية المتتابعة في رسم صورة ذكية عن التقدم والتطور العالمي الأمريكي والأوروبي الذي لا يمكن إنكاره، إلا أن ترتيب الدول حسب كثرة براءات الاختراع التي تسجلها سنويا، تضع اليابان في الدرجة الأولى ويليها كوريا ثم الولايات المتحدة الأمريكية وبعد ذلك تأتي أوروبا وأخيرا افريقيا.

تؤثر الثقافات والأنظمة على نتاج المجتمع وهذا ما يجعلنا نتأكد يوما بعد يوم، أن ثقافة الأسرة هي التي تؤثر بشكل مباشر على تكوين مبدعين في المجتمع، فالأسرة التي تعتني بصغارها وتهتم بأبنائها وتجتهد لتنمية قدراتهم العقلية والجسدية وتتبنى دور الحوار والمتابعة والاجتهاد في التطوير والتعليم، تنتج لنا جيلا مبدعا مؤثرا فاعلا منتجا.

سادت موجة فكرية مؤثرة في الأوساط الشرقية العربية، في فترة قريبة، بأن نظام التعليم الأمريكي والأوروبي كذلك، يتيح لأبنائنا فرصا أوفر في التقدم المهني المستقبلي، ونجد بعد سنوات من هذا التوجه وتتبع تأثير هذه الموجة، بأن المسألة لا تعتمد على المناهج فحسب، بل هنالك عوامل أساسية وضرورية لتكوين تلك الفرص.

الإبداع لا يأتي من الفضاء، بل من الأرض ومنها ننطلق نـحو الفضاء، وهو لا يعتمد على مناهج متميزة فحسب بل يحتاج إلى أسرة حاضنة، ومدرسة ومعلمون ومجتمع يعملون كلهم بإيمان نـحو اكتشاف القدرات الابداعية الموجودة فطريا في أبنائنا لننطلق من بعدها إلى رؤية جيل منتج مصنع مخترع مبدع قادر على التفكير والعمل والتعلم لمواجهة تحديات زمانه.

علينا أن نستثمر في العقول وليس في الأثاث والملابس والطعام والسيارات والمنازل، ولسنا أبدا بحاجة إلى تلك المرافق الدراسية التي أصبحت تتضمن من الساحات والملاعب والمسابح وغرف اللعب والكمبيوتر، بينما تفتقد بشكل واضح للمكتبات والمعلمين الأكفاء والممارسات اليومية الداعمة للتعلم الحقيقي والبحث العلمي.

نعاني في المنطقة العربية من الجانب التعليمي لأن راتب المعلم أصبح في أقل مستويات السلم الوظيفي للوظائف الحكومية، وبالمقارنة بالقطاع الخاص فهي أدنى وأقل، ناهيك عن مكانة المعلم في المجتمع، وهذا ليس على سبيل التعدي وإنما واقع ملموس في كل (وأعني بكل ما تعنيه) الدول العربية.

عندما تتحول الأسر من الاهتمام في المسكن والملبس والمشرب والمأكل إلى الاهتمام بما يغذي العقول وينمي الابداع ويطور الفكر ويؤمن حماية للفرد حقيقية، سنرتقي من القاع إلى القمة، وسنكون مجتمعات منتجة لا مستهلكة، ولذلك لا أستطيع اللوم على الوزارات والإدارات الحكومية، في الوقت الذي لم نتحرك كأفراد وأسر في المجتمع نـحو التغيير في هذا الجانب.

نتفق على أن هنالك أمور نعتبرها خطاً أحمراً، كالأمن والاستقرار، والصحة والحياة، والكرامة والعدالة، نتفق على ذلك، لكننا أيضا علينا أن نتفق على أن التعليم خطاً أحمراً أيضاً، لأنه ينعكس بشكل واضح على كل تلك الجوانب، والأمر لا يقف عند أشياء بعيدة وإنما يبدأ من أمور صغيرة جداً تؤثر بشكل كبير.

عندما نهتم بالقراءة، ومتابعة الموضوعات العلمية عبر قنوات الفضائيات الوثائقية، ونعتني بزيارة المكتبات وحضور المحاضرات العلمية، وإعطاء الحوار العلمي مساحة في مجالسنا، والتفكير بصوت مرتفع كيف نطور قدراتنا الذاتية، في التربية والتعلم والإبداع، سنكون أكثر سرعة في إرتقائنا نـحو القمة، عندما نتابع دراسة أبنائنا لنحقق لهم مستويات أفضل من التعلم ليكونوا قادرين على التفكير والتعلم بعيدا عن التحفيز والمتابعة لتحقيق الدرجات فقط (وهو أمر هام جدا).

تأكد بأن كل فرد يمتلك القدرة على الإبداع، وأن الابداع مهارة يمكن تعلمها وتعليمها وممارستها وتطويرها، فالتجربة تقول بأن دولاً مثل كوريا واليابان، تحولت من القاع إلى القمة، ودولاً مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا نزلت من القمة إلى مستويات أقل، هذه التجربة تؤكد أن أي دولة وأي مجتمع وأي فرد قادر على الارتقاء أو الانـحدار على مدرج الإبداع بين القمة والقاع، وفق الجهود والممارسات والاهتمامات التي سيركز عليها في السنوات القادمة.

تبنى هدفاً بأن تكون مبدعاً ثم اعمل وتعلم بتركيز لتطوير هذه المهارة في الحياة العملية المهنية في الحياة الأسرية والاجتماعية، وستكون أكثر قدرة على التغيير والتقدم والتطور، وتوقف عن اللوم على الأنظمة والإدارات التي لا نختلف بأنها مقصرة في جوانب عدة، إلا أننا مشتركون في التقصير، وقادرون على التغيير الذاتي والذي سينعكس على الأسرة والمجتمع، فابدأ بنفسك.

اشرف بن محمد غريب
30 أغسطس، 2014

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية