صناعة الفرص في الوقت الضائع

رسخت لدينا أنظمة العمل الحديثة مفاهيم ليست صحيحة حول التقاعد، وبات الأمل الذي كان يسموا إليه الواثبين في مجالات العمل نحو التقاعد هاجسا مرعبا من الفراغ، الذي يقتل روح الابداع والمبادرة لدى النفس البشرية، لذلك نبحث دائما عن تصحيح مفاهيمنا حول الأمور التي يتطلب التنبه لها، ومنها التقاعد فرصة أم ورطة.

يستفيد المتقاعد إذا خطط لوقته مسبقا، استثمار حياته بعد التقاعد بما لم يكن من الممكن الاستثمار فيه قبل التقاعد، فالحالمون دائما يبحثون عن الفرصة في كل جوانب حياتهم، ومن هؤلاء من يسعى جاهدا لاستثمار خبراته الحياتيه السابقة في تأسيس مشروع خاص أو بناء قاعدة معرفية ذكية و المساهمة في بناء المجتمع كونه فردا لم يخرج من دائرة التأثير على من حوله.

عالميا، استطاع هارلند ساندرز تأسيس واحدة من أكبر سلاسل المطاعم العالمية التي تمتلك حاليا أكثر من 13000 فرع حول العالم، مؤسس شركة كنتاكي، الذي بدأ مشروعه بعد تقاعده، ولازالت صورته تعتلي جميع الفروع المنتشرة حول العالم، ذلك الرجل الكبير ذو اللحية البيضاء، كان "ونستون تشرشل" عمره 66 عاما في 1940 عندما اختير رئيسا لوزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد اعتقد البعض أن حياته السياسية انتهت في يناير عام 1932، كما كان "راي كروك" يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاما عندما اشتري مطاعم ماكدونالدز الصغيرة ثم حولها إلى مؤسسة كبرى

محليا، بدأ فهد العلي الصالحي، بعد تقاعده «ترميم» المنازل الطينية في عنيزة، فتتحول من منازل طينية متهالكة إلى متاحف ومواقع للزيارات. بدأ في مشروعه الأول بعد أن ظفر بمنزل طيني وسط حقول النخيل في محافظة عنيزة بقيمة تصل لـ250 ألف ريال، ليبدأ رحلة تجهيز المتحف وترميم المنزل وشراء القطع التراثية القديمة، ليصل بقيمته إلى أكثر من مليون ريال، مدفوعاً بحب التراث، وعشق الموروثات القديمة. ويقف الصالحي يومياً في متحفه لاستقبال الزوار، مبتدئاً من القهوة القديمة، التي تم تجهيزها على النمط التقليدي القديم، ومن ثم يتجول الزوار داخل غرف المنزل بأسمائها القديمة وأثاثها التقليدي القديم، ويرى الصالحي أن في هذه الأيام من الصعب أن تجد التراث بصورته الأصلية

من أهم الثروات التي يمتلكها المتقاعدون، هي الوقت والذي إن تم استغلاله وتوظيفه أنتج خلال سنوات قليلة مالم يتمكن المتقاعد من انجازه طيلة رحلة حياته العملية، فاستطاع الدكتور عبدالكريم بكار بعد تقاعده، التفرغ للنشر، واستثمار قراءاته السابقة طيلة حياته وكل ما كان يكتبه في خلاصات لينتج لنا في سنوات قليلة نتاج فكري فائق التميز تشهد به الكتب التي تتصدر قوائم النشر الحديثة

القراءة عمل ترفيهي تثقيفي تحفيزي تطويري فائق التميز في قدرة الانتاج، فعندما يتفرغ المتقاعد للقراءة والكتابة يبدأ سيرة جديدة لحياة ملؤها الطموح والإنجاز، وخبرة المتقاعدين تمنحهم فرصة الفهم المتعمق للقراءات الهادفة التي تثمر عن تحسين في جودة الأداء الشخصي الذي ينعكس على الشخص القارئ أولا وأسرته وعائلته ثانيا والمجتمع ثالثا ورابعا وخامسا.

يمتلك المتقاعدون الوقت أهم عنصر في تمكينهم من القراءة والاستفادة والافادة، وهي أداة تفاعل كونية تمكن القارئ من التفاعل مع الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، اضافة الى كون القراءة داعمة للحالة النفسية والاجتماعية للمتقاعد لأنها تجعله متفاعلا مشاركا للمجتمع غير منعزل عنه بعيدا عن التأثير فيه.

استطاع المتقاعدون العسكريون والمتقاعدون الرياضيون من تقديم قراءات متعمقة لتحليل المواقف الحاصلة في مجالات عملهم، ولم يكن لتقاعدهم نقطة توقف بل كانت نقطة تحول، رائعة تمنح المجتمع ثمرة الخبرة ممتزجة بالقراءات المكثفة لتنتج خبرات ليست مسبوقه، فكم سمعنا عن مهاتير محمد في انجازاته لتحويل ماليزيا من دولة متاخرة في تعداد الدول النامية الى دولة صناعية رائدة، وبعد تقاعده، يقوم اليوم بتقديم الاستشارات للشركات العالمية والدول الناهضة في تطوير أعمالهم.

إن مرحلة التقاعد هي واحدة من مراحل الحياة، بوسع الإنسان أن يجعلها مرحلة ركود ودعة دون انتاج أو عمل، ويستطيع من خلال القراءة والتفاعل أن يقدم للمجتمع والعالم خبرات لا يمكن للشباب تقديمها لانشغالهم في العمل من اجل تحقيق الدخل اللازم لتيسير امور حياتهم، فالوقت المتاح للمتقاعد اضعاف ما هو متاح للشباب وقدراتهم العقلية التي تنعم بمخزون ثقافي وخبرات سابقة تمكنهم من استيعاب النص المقروء اكثر بكثير من غيرهم مما يمكنهم من تحقيق الفائدة بوقت أقل.

إن القراءة تعتبر أكبر محفز للإبداع وهي أداة فاعلة لتقوية الذاكرة وتجديد خلايا الدماغ، فمن خلال القراءة يستطيع المتقاعد، تطوير قدراته الذهنية وتقوية ذاكرته، وتحسين أداء عقله، وهذا بالأهمية بمكان للمتقاعدين بالذات أكثر من غيرهم، فهم بحاجة إلى تطوير قدراتهم الذهنية باستمرار والحفاظ على اللياقة الذهنية تماما كما هو الأمر مهم للحفاظ على اللياقة الجسدية.

لذلك أشد على يد المتقاعدين للتفرغ للقراءة والقيام بدورهم الريادي في النصح والإرشاد من خلال تكوين أفكار متجددة من قراءاتهم المتكررة والمتتابعة، فهم أصحاب الريادة والأسبقية، ونظرتهم الشمولية قادرة على تأسيس فكر متجدد لللاحقين بهم، فهم السابقون والقادرون على تتويج سيرتهم العملية باضافات قيمة من خلال قراءة وفكر تمنحهم وتمنحنا حياة أفضل.

أشرف غريب 

18 ديسمبر 2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية