تحذير المحتوى فاسد

عملت في القطاع الخاص 15 عاما، وجزئيا عملت في القطاع العام والخيري، ودربت أكثر من 16000 شخص، وجها لوجه، وأصبحت أطلب بالاسم، لتدريب القيادات والمتخصصين في عدة دول خارج بلدي. قرأت آلاف الصفحات ومئات الكتب، وراجعت كم كبير من المقالات العلمية والمجلات المحكمة والدراسات المتخصصة والخلاصات، وقدمت عدد من الساعات على القنوات الفضائية وبعض الاذاعات، ودفعني كل ذلك لحضور الكثير من ورش العمل والمؤتمرات والمنتديات، وتتبع المعارف والعلوم، حضرت برامج تدريبية متخصصة وحصلت على إمتيازات خاصة، ورخص دولية، فلم يزدني كل ذلك إلا إدراكا بجهلي. قمت بالعمل كمدير مشاريع في مجال تطوير الأعمال، وعملت مؤخرا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة لإعداد وتطوير أكثر من 20 حقيبة تدريبية منهجية محكمة، تدرب على نطاق واسع (هذا يعني أنها مراجعة من قبل أساتذة ودكاترة متخصصين وتدرب لالاف من المستفيدين)، ووفقت لتأليف 9 كتب، ولم يزدني كل ذلك إلا إدراكا بجهلي. الأمر لا يدور في دائرة التواضع أو التجمل، وإنما بيان حقيقة واقعية، وبإمكاني إثبات ذلك عملياً، فعندما أقوم بكل تلك الأعمال، هذا لا يعني أنني أحدث أثراً، وإنما كل ذلك يعني أنني سوقت نفسي جيداً، فحققت مكاسب على الصعيد العملي، فعمليا خلال الخمس سنوات الماضية، قدمت 365 يوم تدريبي تقريبا، هذا يعني أنني وقفت أمام المتدربين والجمهور فقط في الخمسة سنوات الماضية 2190 ساعة، الأرقام مغرية لكنها لا تعني شيئا كبيراً على صعيد الأثر. السؤال الأصعب: كم شخصاً تأثر مني؟ ما عدد الاسهامات التي ساعدت في تنميته وتطوير مجتمعي؟ كم حلاً عبقرياً أحدثت في مجال عملي؟ مما ساهم في تيسير أعمال الأخرين؟ كم شخصاً تطور حقيقة وتأثر وأثر على عائلته ومن حوله، من خلال ما قدمته؟ كم مرة قلت أنني أخطأت في المحاضرة س أو ص (وهذا يحدث عادة لا محال) وعدلت مفهوم خاطئ كنت أسهمت في نشرة؟ كم مقالا نشرت عن علاج تلك المشكلات التي أحدثتها، لأشخاص وربما لمؤسسات أو مجموعة من الأفراد؟ من اليسير أن نغرد بكلمات إيجابية، وأن ننشر كماً هائلا من الحكم والمواعظ، ومن اليسير أن نتحدث بلسان الخبير والحكيم، لكننا نجهل كثيراً كيف يكون بالامكان تغيير واقع إنسان مرير، أو التأثير بشكل مباشر على حالة سلبية لتحويلها إلى حالة إيجابية. نحن بحاجة إلى إدراك أمر هام، قبل أن نستمع لأي كان، أو نقرأ لأي كان، علينا أن نسأل أنفسنا، من هذا؟ ماذا قدم؟ أين إسهاماته في إحداث تغيير على مستوى مجتمعه؟ أو على فئة من المجتمع؟. نحن بحاجة لإعادة السؤال مرتين وأكثر، لنتحقق من صلاحية الاستخدام، تماماً كما نفعل حين ننظر أسفل عبوة غذائية، لنتحقق من تاريخ الصلاحية، علينا التحقق من صلاحية الشخص الذي نتلقى منه أي شيء تغريدة أو مقالة أو فكرة أو حلقة في قناة، أو أي شيء. لا أشكك بالآخرين، ولا أحاول تقليل من شأن أحد، لكنني أنوه إلى نقطة هامة في عملية التواصل والتلقي، في عملية النقل والتبادل، ربما أصبح الكثير منا يتجاهلها، مع أهميتها البالغة، وهي التحقق من صلاحية المادة المتبادلة قبل تبادلها، والتحقق من الشخص الذي نتلقى منه قبل أن نتلقى منه. أستراتيجية فعالة لتقييم المحتوى قبل تلقيه، وتداوله، وهذا أمر غاية في الأهمية، لأننا في كثير من الأوقات نتلقى المحتوى، وربما نتبادله، ونحن لم نتوقف ثوان لنتحقق من صحة المحتوى، أو قيمة الناشر، ولم نفعل شيء في تقييم المحتوى والناشر، إسأل هذه الأسئلة عند تلقي أي محتوى وقيمه ذهنيا قبل تلقيه أولا وقبل نشره ثانيا، وابحث عن أفضل إجابات لهذه الأسئلة: لماذا أستثمر وقتا في هذا المحتوى؟ ما أهميته لتخصصي؟ ما إضافته لاهتماماتي؟ ما قيمته لاحتياجاتي؟ ما أثره لأدوار حياتي؟ ألا يوجد أفضل منه، وأستطيع تلقيه الآن؟ ما قيمة الناشر؟ علمه؟ خبرته؟ علاقته بالمحتوى؟ ألا يوجد أفضل منه، وأستطيع التلقي منه الآن؟ تقييم المحتوى قبل البدء في تلقيه، وتقييم الناشر قبل التعاطي معه، سيتيح لنا مجالا واسعا لانتقاء ما نتلقى وتقييم ذلك المحتوى وتحديد مسارات جديدة للتواصل غير تلك التي باتت وكأنها مفروضة علينا، وعلينا أن تعلم كيف نحذف المحتوى قبل تلقيه، وكيف نقاوم إغراء المحتوى، وتجاوز كثيرا من تلك المحتويات وأؤلئك الناشرون، الذين نخسر من أوقاتنا معهم أكثر مما يضيفونه لحياتنا. اعتراف خطير جدا لكنه يؤكد أننا لا نقاس بكم كتاب؟ أو كم مقال قدمنا؟ أو كم مشروع أدرنا؟ لكننا نقاس بكم أثرا أحدثنا؟ وكم أمرا يسرنا؟ وكم إنسانا ساعدنا؟، اعتراف خطير جدا لكنه يؤكد أننا لا نقاس بشهرتنا؟ ولا ما يحكيه الناس عنا؟ وإنما يقاس بما ندرك من جهلنا؟ وما بنيناه على صعيد تقدم أمتنا؟ وأي إرث تركنا لذريتنا؟، لا تنخدع بالمظاهر فكثير منها ما يخدع، واهتم بالمضمون وهذا أولى وأهم. أشرف بن محمد غريب تورنتو، 14 نوفمبر 2016

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية