الكنز المفقود لنكون

بعد انقطاع أخبارهم طيلة خمسة عشر عاماً، وأخيراً ظهرت سفينة على إحدى شواطيء أسبانيا يعتليها عشرة بحارة يهتفون ويهللون بأصوات متباينة وجدنا الكنز وجدنا الكنز، هكذا بدا المشهد من بعيد، حين بدأ الناس يلتفون من حولهم وبدأت تتجمع وفود الإعلام، والصحفيين يقفون طوابير للقاء قبطان السفينة، ليستمعون إلى القصة من المصدر الرسمي لها.

إحدى الصحفيات رأت شاباً في بداية العشرينات واقتربت منه وسألته بطريقة اللامبالي: هل كنت معهم؟. فأجاب بلهفة: نعم نعم.، فأدركت أنها أول من ألقى له بالاً وأخذته إلى جانبٍ مظلمٍ بعيداً عن أضواء البحارة وسألته، كيف استطعتم أن تمكثوا في البحر خمسة عشر عاماً وأنتم على أمل، كيف استطعتم أن تمكثوا في البحر خمسة عشر عاماً وأنتم على أمل أن تجدوا صندوق الكنز؟

قال الشاب: إنه القبطان، نعم القبطان، كان في كل يوم حين نستيقض من النوم يبدأ بالحديث معنا ويحفزنا ويشعرنا أن اليوم غير كل الأيام الماضية، اليوم هو يوم الكنز، عملنا طيلة خمسة عشر عاماً بدافع التحفيز الإيجابي اليومي من القبطان الذي كان يتحدث كل يوم وعيناه تلمعان، كانت نبرات صوته تقول أنه يعرف تماماً أين الكنز، كان يشعرنا بإيمانه الكامل بوجود الكنز حقيقة لا شك فيها، وأن طول المدة أو قصرها للحصول على الكنز إنما هي الفرق بين من يستحق أن يجد الكنز ويحظى بروايات حقيقة عنه وبين من سيروي رواياته عن البحر خالية من الكنز.

إن الفرد أو المجموعة يستطيعون تحقيق أكثر بكثير مما يأملون ويرجون ويسعون، إن كانت لهم محفزات تأثر بذواتهم وترمم إخفاقاتهم وتساهم في تحقيق تطلعاتهم بقدر يفوق آمالهم، لذلك يفتقد الكثير من الناس إلى التركيز ويتشتتون في العمل والتفكير بأشياء كلها ذات قيمة عالية، لكن فقدانهم للتركيز على واحدة منها أفقدهم الكثير من قيمتها التي تمازجت مع أشياء أخرى.

هنالك عوامل للنجاح:

  • التهديف (وضع الأهداف بطريقة ذكية تجعلها مصاغة بطريقة تمكن من إنجازها)
  • التخطيط (تحديد الوضع الراهن - مانحن عليه - وتحديد الوضع المأمول - مانسعى للوصول إليه - وتحديد طريقة لتحقيق ذلك
  • التركيز (عدم التشتت بأكثر من هدف في الوقت الواحد وتجميع الجهود وتكثيفها على تنفيذ خطة تحقيق الهدف

وهذا يوضح كثيراً من النتائج الفعالة في إنجاز مهام العمل اليومية أو في تحقيق الأهداف الأسبوعية، وصعوداً إلى إنجاز مشاريع سنوية أو مرحلية (من 3-5 سنوات) ولكن يبقى هنالك دائماً عوامل أخرى مؤثرة ولها قيم رئيسية في النجاح مثل التحفيز. تثبت دراسة علمية في جامعة هارفرد أن الأهداف التي تفتقد لمحرك محفز داخلياً يدفع الإنسان إلى تحقيقه تكون أهدافاً مهما بلغت حاجتنا لها وقدرتنا على تحقيقها غير قابلة للتحقيق.

يقول بول حنا أستاذ التحفيز الأسترالي أن امتلاكك دوافع تشعرك بأن شيئاً من الداخل يدفعك للاستيقاظ مبكراً والإنطلاق إلى ملك يجعلك تستغرق ستة عشر ساعة عمل دون تعب أو ملل هو ما يمكنك من الإنجاز وليس شيء آخر. نحن بحاجة إلى محفزات تجعلنا أكثر رغبة بعمل ما نقوم بعمله وصناعة المعجزات لتحقيق الذات وهذا لا يمكن أن يتحقق دون البحث بمكامن الذات والاستبصار برؤى تدفعك للانطلاق مسرعاً في زمن يفتقد فيه الكثيرون للحوافز المعنوية أو الشخصية أو الجماعية.

كنت أعمل مديراً لمشروع ضمن إدارتي في التسويق لوحادة من أكبر مائة شركة في المملكة، كانت نهاية حملة تسويقية وقررنا منح الموظفين المشاركين بالمشروع مكافئات نقدية، أتحدث بهذا الأمر لأحد الموظفين فقال: لو منحتنا شهادات تقديرلكان أفضل، تعجبت كثيراً لكنني أدركت أن القيمة المعنوبة مقدمة عن القيمة المادية ونحن كبشر مستعدون لدفع الغالي والنفيس مقابل الشعور بهذا التقدير.

لا اتوقع أن حالة الكرم الحاتمي التي يتمتع بها كثيىراً من العرب تنبع من قيم دينية أكثر من تحركها بدوافع تحفيزية شخصية، ولا أستطيع نفي القيم الدينية فهي أساس ولا شك، فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، له قيمة عالية في نفوس المسلمين، وهذا لا يتعارض مع كوننا نتأثر بمؤثرات إيجابية معنوية لدوافع شخصية أيضاً.

تقف أم أديسون خلف كل نجاحات شيخ المخترعين أديسون، الذي قدم في سجل مكتب براءة الإختراعات الأمريكية عدداً من الإخراعات يفوق الألف براءة إختراع، لأن أمه رفضت الواقع السلبي الذي يقول أن ابنها لا يمكن أن يكمل تعليمه فأخذت على عاتقها مسؤولية تعليم أديسون، ويروي جار أديسون القصة ويقول: أتذكر كيف كانت أم أديسون تجلس في فناء المنزل لتدرس أديسون بعد فصله من المدرسة وحولت نظامه التعليمي المنتظم إلى نظام منزلي ليتم دراسته لاحقاً، وأديسون كان دائماً يؤكد مع كل نجاح على دور أمه في تحفيزه حتى بعد موتها، يقول أعمل وفاءاً لتلك المرأة وتقديراً لها.

أحمد زويل العالم المصري يقول: الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، ھم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل، فهو يدرك ذلك الدعم المعنوي بشقيه الإيجابي والسلبي في المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية، وهذه ظاهرة لا جدال فيها، ولذلك أتوقع أن تعليم التلاميذ في المدارس مادة بعنوان التحفيز أولى عشر مرات من تعليمهم الرياضيات واللغة والعلوم وأتوقع أن تعليم التلاميذ في المدارس مادة بعنوان التحفيز أولى مائة مرة من تعليمهم التاريخ والجغرافيا، نحن بحاجة إلى إدراك أهمية التحفيز الفردي والجماعي وإتقان مهارات حياتيه والتأكيد على توافر بيئة دافعة له كفيله بنمو تحفيز إيجابي دافع لعمليات الإنجاز.

يتحدث البعض عن الدور السلبي للتحفيز ولا أقلل من أهمية وجهة النظر هذه ودورها في تكسير عوامل البناء والتحفيز الإيجابي والفكرة في أن بعض المحفزين يبثون عبارات التحفيز الخالية من الخبرة والقيمة فتصبح كلمات بلا معاني والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف جوانب الحياة، يروى أن معلما ذهب إلى سوق السمك فوجد أحد طلابه يقف إلى جانب والده في محل لبيع الأسماك فقال المعلم للأب: أريدك أن تراعيني فأنا درست ولدك في المدرسه. فرد الأب: ولماذا أراعيك، ماشاء الله، تفخر وكأن الولد تخرج طياراً أو طبيباً، شوف الولد تخرج بائع في محل بيع أسماك من تعليمك.

لن ننكر أن هنالك محفزين يثبطون أمة بكلماتهم التي تفتقد إلى معاني الواقعية، تشاهد نجوماً إعلاميين يثرثرون من سنوات بمجالات ثقافية وتوعوية ودينية، تجد جل ما صنعوا مكاسب شخصية لا تتجاوز حدود ذواتهم، ثم تكون النتيجة أنهم أصبحوا مدعاة للإحباط بمجرد مشاهدة أعمالهم، لأننا نتتبع إنجازاتهم دون الشعور بأثر كلماتهم على حياة المعجبين بهم والمتابعين لهم.


الغريب بالأمر أنه وعبر التاريخ تلاحظ آثار كتابات وكلمات المؤثرين تولد بعد وفاتهم، وكأنها معادلة عكشية وأنا شخصياً بدأت أنحى منحىً في القراءة للأموات أكثر من الأحياء وكأن قناعتي باتت هشة تجاه الأحياء، بغض النظر نحن نبحث عن الكنز المفقود في ذواتنا وننطلق كل يوم للعمل والتعلم والتفكير والعيش بحياة يعتريها مزيجاً معقداً من التاثيرات لا تتجاوز كونها مكونات للحياة فقط من أجل أن نكون في مكان أفضل غداً من ذلك الذي كنا فيه بالأمس وهذه مساعينا اليومية، وكل الطرق تؤدي إلى روما إن كان التحفيز شريكاً للطريق.

حفزوا أنفسكم وتذكروا أن الله سبحانه وتعالى شمل في زمرة الناجحين في الحياة المؤمنين والمجتهدين بعمل الصالحات والمتواصين بالخير والصبر وظني في التواصي سلوكيات إجتماعية للترابط والتواصل والتفاعل والتعاون كلها تبدأ وتنتهي عند التحفيز.

كم طفل أصبح مبدعاً متالقاً عالماً تاجراً أو ناشطاً مؤثراً؟ من كلمات إيجابية تلقاها من معلم أو جار أو قريب أو صديق والعكس بالعكس يذكر، ولو تسترجع في نفسك الشخصيات العشرة الأولى التي قد ترد على ذهنك الآن ستكون كلها شخصيات أثرت عليك بمحفزات سلبية أو إيجابية، وخذ من هذا الجانب جملة من القياسات. الكنز المفقود لا يمكن أن يكون في المال أو المنصب أو كثيراً من المتع التي لا شك أنها تظفي جمالاً على الحياة، لكننا بحاجة إلى محفز يدفعنا من الدخل لنكون نحن.

لم تكن كلمة لنكون في عنوان المقال ذات معنى إلا أنها قيمة مجهولة تعمل كمحفز للقارئ، تدفعه لقراءة المقال، وهذا من التأثيرات على العقل الباطن، فطيلة قراءة المقال تتصارع قوى خفيه في الذات بين مثبط يدعوا إلى العزوف عن القراءة، بحجة الملل، ومحفز يبحث عن المجهول، وقد تنجح مع نفسك حين تزرع أملاً بحافز يدفعك للانطلاق مبكراً في إنجاز مهام يومية تحرز تقدماً في مخطط المشاريع التي تعمل بجد من أجل إنجازها.

أشرف بن محمد غريب
29 أغسطس، 2016

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية