البرمجة اللغوية

لا أتحدث في مقالي هذا عن البرمجة اللغوية العصبية، ولا عن مفاهيم التطوير الذاتي المتعلقة بدروس الطاقة، أو مفاهيم التطوير الذاتي المرتبطة بمهارات ذات صلة بأي من تلك الموضوعات، ليس لشيء أكثر من جهلي بكل تلك المفاهيم، فأنا لست متخصصا في أي منها، ولم أمنح نفسي فرصة كافية للقراءة عنها، عدى قليل من الاطلاع، وبعض الجلسات السريعة مع الزملاء، كانوا يتحدثون فيها عن تلك المهارات، وحتى الآن ليس لي عليها أي انتقاد أو تحريض ودعم وتحفيز، ولكنني سأتكلم عن البرمجة اللغوية، بمفهوم التأثير اللغوي على التفكير، ربما تتقاطع أفكاري مع بعض أفكارهم، لكنني أؤكد أنني أتكلم عن فكرة مستقلة ليس لها علاقة بأي من تلك العلوم والمهارات. البرمجة اللغوية وفق ما أود الحديث عنه وايضاحه لكم، هي قدرة الكلمات المتداولة في وسط اجتماعي او بيئة معينة، على التأثير على طريقة التفكير بحيث تقلب موازين الأشياء، لدرجة أنها قد تقلب موازين الحق والباطل والعدالة والمبادئ الأساسية التي يتفق عليها البشر، ربما تنقلب بفعل تكرار وتردد بعض الكلمات وهنا يصبح الخطر المحدق بتلك البيئة أو ذلك المجتمع خطر كبير جدا، لأنه ستحول من مجتمع متحضر إلى مجتمع همجي غير قادر على تقييم الأمور بالطريقة المثلى أو بطريقة اعتيادية تعتبر مفضلة في الظروف الطبيعية إلا أنه سينحرف ليرى الأمور بطريقة غير مقبولة ربما لذات المجتمع في ذات المكان والزمان مع تغيير بعض الحقائق. عندما تهب القنوات الفضائية لتعزيز مفهوم أو تأطير قضية، فهي تؤثر بلا شك على الرأي العام، وبالذات إن تزامن مع تلك الهبة من التأثير ذات الفعل بالنسبة للصحافة، أو قنوات التواصل الإجتماعي، سيصبح التأثير لاشك سحري، لأن المغذيات الفكرية والثقافية ستعمل على تعزيز فكرة واحدة وبغض النظر كانت الفكرة صائبة أم خاطئة، سيكون لها نصيب الأسد في التأييد من قبل المجتمع التي تبث فيه، وليس للعقل والحكمة هنا أي دور، لأن الحكيم سيكون في هذه الميمعة شاذا لا يأبه لا أحد، وربما يرى البعض فيه سمات الجنون أو الانحراف لأنه يغرد خارج السرب. لا تتوقع أن الشعب الأمريكي كان ينظر للشعب الفيتنامي على أنه شعب مظلوم في الوقت الذي كانت القوات العسكرية الأمريكية والصحافة والاعلام الأمريكي تغذي فكرة الحرب، بل الجميع أو دعنا نقول المعظم كان يتوقع أن الأمور تيسير بمساراتها اللائقة، وهذا الأمر يتكرر ليس في الحروب فقط ولكن حتى في الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، سيكون هنالك تأييد عام للفكرة التي يتفق عليها الاعلام والمجتمع، وربما ننظر لشعوب مسكينة على أنها شعوبا مجرمة، فقط لأن الموجة المؤثرة في الحديث عن الواقعة هي التي تريد ذلك فتصبح برمجة للأذهان باستخدام الكلمات واللغة وهذا ما تفعله الكثير من الدول والمجتمعات. أولاً: يندر إلى حد العدم، وجود إعلام مستقل، أو صحافة محايدة، أو حتى نجم متألق يتحدث أمام الجمهور، وتكون له كلمته المجردة 100% حتى وإن كان مخلص النية، فمن حوله من المؤسسات والجهات ليسوا باخلاصه، ولذلك سيكون محاذر في حديثه إلى حد ما، وحتى وإن افترضنا أن هنالك البطل الشجاع، الذي لا يأخذه بالله لومة لائم، فهو سينحرف جزئيا تجاه أفكاره وقناعاته وفق تاثيرات الموجة المحيطة سواء كانت اعلامية أو صحفية او انترنتية او اجتماعية وستكون له أراء مختلفة عن طبيعة قناعاته، لأن ذلك التشويش يؤثر حتى وان كان التأثير من بعيد. ثانياً: كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا، وهذا يعني أن الحكمة الصافية لن تبقى كذلك في وجود كثير من الاراء والعداءات واختلاف وجهات النظر ومساحات الحديث والتأثير والكلام، وهذا يعني أن الحقائق الثابتة الواضحة ستتزيف مع هذا الكم الهائل من التحريف والتأثير والعرض والطلب وبالتالي، ربما تجد عاقلا يتبع رأيا جاهلا، والعكس فقط لمجرد أنه سمع الكلام من أكثر من جهة بالتالي سيكون عنده تشويش في التلقي وهذا ما سيدفعه للتغريد مع السرب، الذي يغرد أصلا خارج الإيقاع المتناغم، لكن الحكم العربية تقول الموت مع الجماعة رحمة، وربما هذه الرحمة هي التي قضت على عدد كبير من البشر في حروب، وكوارث كان من الممكن أن تتخطاها البشرية. ثالثا: القدرة الإلهية، وهذا مفهوم خطير يجعل الكثير من الناس يقع في دائرته، وربما البعض يزندق الآخرين عندما يحاولون فقط الحديث عن القدرة الالهية، وهي ببساطة، التفكيرات السلبية تجاه الأحداث فقط لايماننا بان الله سبحانه وتعالى لن يقبل لنا الا بالخير، وهنا ربما ننحرف عن أساسيات ما هو مطلوب منا العمل به فقط لاننا نؤمن بان الله سبحانه وتعالى سيحفظنا، والله سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير، لكن المتواكلين والمتخاذلين ليس لهم مكانة في قوانين الحياة، ولذلك سنجد أن الكثيرون يضيعون تحت مضلة التواكل، وهم يتظاهرون بالتوكل. رابعا: نوًّع مصادر التلقي لديك حتى تكون مستقلا في تمحيص الرأي، فمن يتلقى كل معارفه وعلومة ومعلوماته واخباره من مصدر واحد، حتى وأن كان هذا المصدر، قناة فضائية تبدوا محايدة أو شخصية اجتماعية تبدوا محترمة أو غيره، فحتى وإن تلقيت معلوماتك من شخصية ذات قيمة اعتبارية رائعة، هو معرض للبرمجة اللغوية ممكن حوله او من مصادر تلقيه، وهنا ربما يكون رأيه مختلفا بحسب حالة التلقي الخاضع هو لها، فعليك أن تكون أنت مدركاً لأهمية تنويع مصادر التلقي وبالتالي تكون قد جمعت على الأقل آراء مختلفة تمنحك فرصة جيدة لتقييم الأمور بطريقة أفضل. خامساً: العزف على إيقاعك الخاص، وهذا ما يسميه البعض بلغتنا العربية، وضع يده على الجرح، هنا يعني الكلام أن أحداً ما سيتحدث عن القضية السورية، أمام شخص اكتوى بنار الثورة السورية وتأثر سلباً منها بفقدان قريب أو عزيز، أو خسارة بيت أو تجارة، ستجده ذلك المكتوي من نار الحدث، أكثر حباً للمتكلم عن حقوق السوريين، لأن المتحدث هنا يعزف على إيقاعه الخاص، وهذه الطريقة تؤتي ثمارها، والمثال فقط للتوضيح والحالات كثيرة جدا، تصل إلى أبعد مما تتخيل، فمن يتحدث عن مشكلاتك ويتحدث بلسان حال يحاكي أمنياتك ورغباتك ستكون محبا له أكثر من غيره وهذا الحب، سيمنح المتحدث فرصة ذهبية، لتمرير أي رسالة حتى وإن كانت ظالمة جائرة من خلال تلك المساحة المفتوحة التي منحتها له، وهنا سنجد أنفسنا متأثير بالكلمات ومبرمجين بها، رغم أنها تتكلم بلسان حال ظالم، ولكنن لا نراها كذلك. سادساً: الثأر القديم، وهذه أيضا من المؤثرات التي تساهم في تمرير رسائل الكلمات والبرمجة اللغوية، بشكل غير اعتيادي، فلو أننا نعيش في مجتمع من الناس مختلف الألوان فلو قلنا مجازاً أننا نعيش في مجتمع ملون بعشرة ألوان، وعندما كنت في سن العاشرة، حدثت لك مشكلة وانت من اللون الأبيض، مع شخص من اللون البرتقالي، وشاء القدر أن يظلمك ذلك البرتقالي، وبعدها بسنة واجهة معلما سيء الخلق صعب الطباع وكان هو أيضا برتقالي، وبعد عشر سنوات تزوجت إمرأة فاضلة واختلفت معها وطلقتها وكانت بالصدفة من ال البرتقاليين، هذا سيجعلك إن سمعت لإمام جامع من البرتقاليين، لن تصدقه، لأن الثأئر القديم تحرك معك في احداث متتالية تقول لك جميعها أن ال البرتقاليين ليسوا طيبين، وتجربتك تؤكد ذلك. سابعا: عدو عدويي صديقي، وهذه الفرضية يتبعها العديد من الناس، فبمجرد أن يجدوا عدوا لعدوهم، يعتبرونه صديقهم، حتى وإن كان هذا الثاني أكثر عداءا لهم من عدهم الأول، وهذه سنن كونية، تجعل الكلمات تؤثر على القرارات، والبرمجة اللغوية تعمل أكثر من قوة السلاح وتهديداته وسطوته، وكم مر بالزمان حالات تؤيد ذلك الأمر والقصص أكثر من أن يلمح لها فقط علاوة على طولها وكثرتها إن أردنا أن نكتبها ونعرضها. البرمجة اللغوية هي قدرة الكلمات على التأثير الإيجابي والسلبي، بالحق أو بالباطل، بالصواب أو بالخطأ، فقط لأنها تتكرر من قبلنا أو من قبل من نثق بهم، أو أنها تتكرر على لسان علماؤنا أو شيوخنا أو معلمينا أو اعلامنا، فما بالك إن كانت تلك الكلمات تتكرر من معظم هؤلاء، وهنالك كثير من المسلمات في مجتمعاتنا بات من اللازم علينا التنبه لها، لانها تعمل على تغيير قدراتنا في الادراك والتفكير والفهم والتغيير، فقط لانها باتت مسلمات وهي بالاصل ليست كذلك لكننا شئنا أن تكون مسلمات فسلمنا بها. كرر أي مفهوم حتى وإن كان خاطئ، حتى ولو على سبيل الهزل والمزاح وليس على سبيل الجد والاعتقاد، سيتحول مع الوقت الى حقيقة تؤمن بها وان كانت ساذجة، فأصل الوثنية، قام على معتقدات مارقة، بأن تصنع تماثيل لشخصيات مثالية في المجتمع، تذكرهم تلك التماثيل بفضل تلك الشخصيات، فيقتدوا بأفعالهم لا باشكالهم، فمع الوقت ذهبت الشخصيات وماتت، وذهبت معها القيم والأفعال والتقوى وماتت، وبقيت الأصنام، فما وجدت الأجيال غير عادات الآباء في زيارة الأصنام والتقرب منها، فتقربوا منها، فخرجوا عن عبادة الله إلى الشرك به، ثم كفروا بالله، وعبدوا الأصنام من دون الله. من الحمق أن تجد رجلا، يصنع صنما ثم يعبده، لكننا نرى كل يوم الافا من الحمقى حولنا، يصنعون أصناما، ثم لا يلبثون ألا ان يعبدوهم من دون الله، وهذه الحقائق ثابتة، وموجودة في زماننا هذا، على مختلف المستويات الثقافية والدينية والاجتماعية والعمرية، والأغرب أن صناع الأصنام وعبادهم، دائما لا يلحظون ذلك الحمق، ربما يكون السر في البرمجة اللغوية، حيث أن تأثير الكلمات أقوى من السحر، وتكراره يجعل من مكذوبه مصدقا، فكن ذى نهى يتأمل في ما يدور من حوله غير آبه لما يقال غير الذي يمحصه ويحلله ويفكر به، بغض النظر عن من قاله وكيف قاله ومتى قاله، فالكلمات سلاح فتاك يضيع أمم ونشيء أمم. أشرف بن محمد غريب تورنتو 30 أكتوبر 2016

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية