الدنيا أكبر بكثير مما نعرف

عندما غادرت مدينة الرياض في 16 سبتمبر 2016 متجها الى باريس، كانت المشاعر كلها مختلطة بين ما أنا ذاهب من أجله وبين ما أنا عليه وكثيرة هي البينيات التي ربما تجعل اختلاط المشاعر أمر طبيعي جداً بالذات وأنت مسافر من مكان أقل ما يقال عنه أنه مسقط رأسك ومجمع أهلك ومحل إقامتك، إلا أن الأمر مر بهذا الشكل كما هو.

وصلت إلى مطار شارلي دي جو في باريس، فرنسا، وكان أكبر همي هو كيف سأستطيع التعامل مع الفرنسيين، وكأنه غاب عني، أن العالم أصبح أكثر ترابطاً فالإيطالي يغادر إلى البرتغال، والصيني يذهب إلى الهند، والسويدي يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وليس لزاماً على الجميع أن يتحدثوا لغات بعضهم البعض، هذا طبعاً، بصرف النظر عن أن اللغة الإنجليزية لغة تحدث عالمية ومتاحة غالباً في أي مكان في العالم.

انتقلت من الطائرة إلى صالة الركاب، وبدأت أتعامل مع كل شيء من حولي دون الحاجة للكلام، وكل ما تحتاجه هو أن تتابع الأرقام، وفي لحظة جاء وقت الحاجة للكلام، وبالفعل بدأت أتحدث مع موظف الاستعلامات، وتمكنت فعليا من معرفة غايتي بكلمات بسيطة تم كل شيء، ولم أشعر أن هنالك ثمة فرق كبير بين مطار الملك خالد بالرياض، ومطار شارلي دي جو في فرنسا.

كانت الرحلة ستة ساعات طويلة، والتفكير فيها متعمق، والمشكلات والحلول والافتراضات كلها تلاشت عندما بدأت أتجول في صالات المطار، وأجلس تارة مع أبنائي على لعبة ما، أو ملاحظة شيء آخر، أو مراقبة الموظفين في أعمالهم، وبغض النظر بدأت فعليا أتلمس أن الرحلة بدأت من هذا المكان، وليس كل ما سبق من ساعات انتظار في مطار الملك خالد بالرياض وساعات للرحلة إلا جزء ربما لن يتكرر تذكره في ثنايا الذاكرة طويلاً، مقابل ما هو آت.

لا أعلم إن كان من الإيجابية أن أقول أنني أعددت لهذه الرحلة كثيراً من التفاصيل، من استخراج بطاقات فيزا، أكثر من واحدة، وبطاقات ماستر كارد، أكثر من واحدة، وحولت مبالغ نقدية كاش بالدولار الأمريكي، واحتفظ ببضعة نقود من عملاء أخرى، وكأنني أبحث عن أي افتراضات للمشكلات وأجد لها حلولاً وكأني خارج من العالم، وليس خروجاً من دولة إلى أخرى.

يعتبر البعض أن التجربة الأولى تكون دائماً مقلقة، ولو عكسنا هذا المفهوم على أي تجربة أولى في حياتك، سواء كانت تجربة العمل، أو تجربة الزواج، أو تجربة الدراسة الجامعية، أو تجربة إنجاب مولود، أو الإنتقال من مدينة إلى مدينة، أو تجربة تملك سيارة جديدة، ودواليك الأمثلة تبدأ ولا تنتهي، ستكون التجربة الأولى دائماً لها إيقاع خاص، يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى ومن وقت لآخر ومن حالة لأخرى، لكنه يتشابه من حيث التوتر المصاحب للتجربة والقلق والشغف، وقوة الملاحظة والترقب.

هنالك من يضحي بالتجربة الأولى كلها، مقابل أن لا يضع نفسه في هذا الإطار، وهذه الحالة، ويجعل نفسه تقليدياً إلى حد كبير، فقط لأنه لا يريد أن يواجه شيء لم يعتاد على مواجتهه أو تجربته سابقاً، وربما يحاول جاهداً أن يكرس العلل في التجديد والتغيير والسفر والتنقل والتحول فقط لأنه لا يريد الإفصاح عن تلك الممانعة الكامنة في داخله أو ربما لا يعرفها فعلياً ويتشكل حوله كثيراً من الممانعات تحول دون القيام بالتجربة الأولى.

كل ما ذكرته في هذا التوصيف لرحلة من الرياض إلى باريس، لم يكن إلا مثالاً يوضح تلك الحالة التي كثيراً ما نتعرض لها، ربما نحاول أن خوضها بكل ما فيها، وربما نحاول أن نبتعد عنها بكل ما فيها أيضاً، إلا أننا بحاجة دائماً إلى سبر أغوار العالم والتعلم من تجاربنا ومحاكاة الواقع الذي هو أكبر من الغرفة التي نجلس بها الآن أو الحدود التي نعرفها.

في القرآن الكريم، يقول الله تعالى، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وهذا تأكيداً على أن كل ذي علم هو أقل بكثير من العلم الكائن في مكنونات الأرض والسماء، وعندما نقول الأرض فنحن نختصر القارات والمحيطات والبحار والانهار والجبال والوديان، بكلمة الأرض، وما هي السماء مقارنة بمحدودية الأرض؟!!

الدنيا أكبر بكثير مما نعرف، وأظن أنني لست مخطئاً إن قلت أن الدنيا أكبر بكثير مما نتخيل، لأن حدود الدنيا ابعد بكثير من حدود علمنا، وهذا متفق عليه، وأضيف أنه أكبر بكثير من حدود خيالنا، وهذا ما قد نختلف عليه، لكنني أرى أن أبعاد الكون أكبر بكثير من تلك الحدود التي رسمتها تجاربنا ومعرفتنا وعلومنا وثقافتنا، أكبر بكثير من كل تلك المحاولات لاستكشاف العالم وما حولنا، حتى أكبر من مربع الشاشة التي نستعرض عليها في التلفاز كثيراً من التجارب والأماكن والصور والأزمنة، إن الدنيا أكبر بكثير من كل ذلك.

صحيح ليست هذه التجربة الأولى في حياتي لمغادرة حدود المكان الذي أعيش فيه، فلا زالت تجربتي في الذهاب لمطار كوالالمبور الدولي حاضرة، حيث كنت مسافراً لرحلة عمل، في ماليزيا، وليس الحال مع مطار كوالالمبور مختلفاً عنه في الحال مع مطار شارل ديغول، وهذا ما يعيد إلى ذاكرتي الموقف ليؤكد ذات الحالة، التي تنتابنا عندما نواجه مثل هذا الأمر، فنحن كل مرة نواجه التغيير أو التجديد سنكون في حالة من التوتر المصاحبة لهذا التغير ستمضي سريعا عندما نبدأ التجربة.

ابدأ سريعاً أي عملية تغيير تنوي المضي بها قدماً ولا تحاول العبث طويلاً مع الافتراضات فهي لن تنتهي إلا عندما تبدأ الخطوة الأولى، وبالتالي ستبدأ في خوض غمار التجربة بعيدا عن التسويف في التفكير ملياً بعمق لا ينتهي من المسألة في حدود تجهلها جيداً وهذا لا يتنافى مع وجوب العمل على دراسة وتحليل الأمر ولكن بحدود قدرتك على الإدراك.

أشرف بن محمد غريب
مطار شارل ديغول
باريس - فرنسا 16 سبتمبر 2016

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية