الحياة في منطقة (ج)

يعيش الناس في منطقة (ج) وفق مجموعة من العادات والأعراف، فمنطقة (ج) تحظى بتنظيم مجتمعي، وضع فيها المؤسسات والقوانين، ليعيش الناس فيها ويعملون تحت مظلة من المحددات التي تنظم طريقة حياتهم، إلا أنهم يعانون من بعض المشكلات، التي ظهرت بسبب هذا التنظيم، فرغم كل إيجابيات التنظيم، إلا أنه يكون الروتين، وهو ما يقتل الإبداع والتفكير خارج الصندوق، لنجد المشكلات مكررة، والحلول تكاد تفتقد للشعور بطبيعة المشكلة، أو الاختلاف بين السكان في منطقة (ج).

صورت الكثير من البرامج الإعلامية، وجملة من الأحاديث التوعوية والتحفيزية، في منطقة (ج)، أن الناس يعيشون فيها وفق تصنيفين، تصنيف الناجحين وتصنيف الفاشلين، وكأنهم يقفون على إحدى كفتي ميزان، ولم تعد هنالك أي فرصة للوقوف على ذراع الميزان بين الكفتين، علماً بأن المسافة طويلة جداً على ذراع الميزان، وغالباً ما نجد حركة تنقل كثيفة بين الكفتين، هذا إن سلمنا بواقع العيش وفق نظرية كفتي ميزان أصلاً، إلا أن الأمر أصبح كذلك على الأقل، من واقع إدراكنا الحالي.

لن يتحقق النجاح لأي كان، دون العبور في ممر الفاشلين، والفشل والنجاح نسبي، وهنالك معايير مختلفة لقياس النجاح والفشل، تجعل من النتائج متغيرة، وفق المعايير المعتمدة للقياس الشخصي والمجتمعي والعالمي، ولذلك نحن بالتأكيد سنحقق كلتا النتيجتين في مرحلة من مراحل حياتنا، ثم ما نلبث إلا أن نجد تغيراً في حياتنا يدفعنا، لنجد أنفسنا في فريق الناجحين أو فريق الفاشلين، وستتغير النتيجة بين فترة وأخرى، وبين معايير وأخرى، وهذا ما يؤكد أننا لا نعيش على حالتين فقط وإنما تتدرج بين الحالتين حالات متعددة كثيرة أخرى.

قبل البدء في قياس مدى نجاحنا أو فشلنا فنحن بحاجة لمعرفة معايير النجاح التي سنقيس عليها واقعنا، ومن ثم سنعرف التقييم وفقها، وهذا يصعب تحديده، بشكل مطلق، لأنه يعتمد على مجموعة من القيم الشخصية والاجتماعية، ومسائل لها علاقة بالروح والعقل والقلب والجسد، والبيئة المحيطة مؤثرة أيضاً على النتيجة، وهذا لا يعني أننا سنخرج من دائرة التقييم، أو أنه لا يوجد هنالك نجاح وفشل، بالعكس فحقيقة أن هنالك فشل وهنالك نجاح، بغض النظر عن المسببات أو النتائج، وعلينا فعلاً فهم هذا المزيج لنخرج بنتائج أفضل دائماً على الأقل عند التقييم.

المشكلة أننا جميعاً نسعى للنجاح، ونحب الناجين بغض النظر عن كوننا منهم أو لا، فنحن نعرف أن النجاح أفضل من الفشل وإن كان الثاني يشعرنا بالراحة في كثير من الأوقات، ولأن النجاح يتطلب تضحيات وتخطيط وعمل وتهديف وتعلم، فهو غاية لكن كثيراً من الناس لا يدركونها، لأنها غاية صعبة المنال، ولا يمكن أن نوصفها على أنها سهلة سلسلة يسيرة، وإن كانت كذلك لكنا جميعاً لا نفكر بهذا الأمر من قريب أو بعيد.

مشكلة المشاكل أن البعض يفشل بسبب طموحه، وهذا ما نسميه فشل الناجحين، فالبعض يضع له أهدافاً كبيرة في الحياة تفوق قدراته، ويكون محفزاً نحو تحقيقها ولكنه، يتعب ويخفق، لأن تحقيق 20% من الأهداف المرصودة، يعني فشل، وللأسف ربما تكون النسبة غير منطقية بسبب التهديف المبالغ به، لذلك يفشل كثيراً من المبدعين والأذكياء والمجتهدين، لأنهم فقط وضعوا لأنفسهم أهدافاً نموذجية نرجسية، وأنا أزعم أنني أعرف الكثير من أهداف الناس في الوطن العربي، ولدي خبرة تخولني لمعرفة 50% من أهداف كل الناس في منطقة (ج).

أهداف الناس في منطقة (ج)، منطقة (ج) هي منطقة افتراضية تعبر عن مجموعة من الناس، يشتركون بما يعادل نسبة 50% من الأهداف، وهي:

  • أن أصبح مليونيراً
  • أن أمتلك مشروعاً خاص
  • أحفظ القران الكريم
  • أترك أثراً في الحياة (تأليف كتاب، بناء منزل للأبناء، ...)
  • أصل إلى مستوى الوزن المثالي
  • أتعلم اللغة الإنجليزية
  • أحصل على درجة علمية أو مرتبة وظيفية

من حيث المبدأ، فأنا لا أعرف شخص حقق هذه الأهداف مجتمعة، وربما يكون السبب في عدم معرفتي، هو قصوري في البحث، أما السبب في عدم تحقيق هذه الأهداف مجتمعة، فليس له علاقة بنوعية الأهداف أبداً، ويمكن أن يكون هنالك من يحققها، ولكن السؤال الأهم هو، لماذا يسعى معظم الناس في منطقة (ج)، لتحقيق هذه الأهداف، أو تجد نسبة 50% منها في قائمة أهدافهم، أو تجدها جميعها بالإضافة إلى أهداف أخرى متعددة.

في دورة تدريبية قدمتها سابقاً طلبت من الحضور كتابة أهدافهم بالحياة، وبعد قراءة أهداف جميع الحضور، وجدتها تتمحور حول جوانب خاصة في الحياة، فالجميع كتب من بين أهدافه، هدف تربية الأبناء تربية صالحة، وبدأت أتسائل، لماذا يشترك جميع الحضور في هذا الهدف؟ ولم أستطع أن أجد إجابة مقنعة، لكن واحداً من الحضور ضحك، وقال لي: سأخبرك بالسبب في وقت الاستراحة، وكنت أكثر الموجودين في القاعة انتظاراً لوقت الاستراحة، لأجده أمامي وحوله مجموعة من الحضور، كانوا يبحثون عن الإجابة لذلك السؤال، وكانت الإجابة مقنعة جداً، فقال: قدمت أمسية ثقافية في الوزارة قبل أسبوع عن أهمية دعم المنظمات لتطوير سلوكيات الموظفين ومهاراتهم، في الجوانب الإجتماعية والشخصية مضافة إلى الجانب العملي، والتركيز تمحور حول أهمية تربية الأبناء تربية صالحة.

إذاً الجميع يدرك أهمية تربية الأبناء، لكن أمسية ثقافية تركز على أهمية هذا الهدف، يجعله يرتقي ليصل إلى قمة قائمة أهدافنا، وهذا ما يدفعنا لإعادة النظر في أهدافنا في الحياة، فهي تتغير وفق المؤثرات الخارجية، بنسب متفاوتة تختلف ليس بحسب إختلافنا فقط ولكن أيضاً بحسب التوجيه الثقافي والمجتمعي والإعلامي والديني والسياسي، وهذا يؤكد دائماً أهمية التنبه للأهداف، لأن بعضها لا يهمنا أصلاً لكنه صعد إلى القمة بسبب تأطير المجتمع، وبعض العادات والأعراف والمعتقدات، كلها تصب في تحديد أهداف، ليس بالضرورة تكون ذات أهمية بالنسبة لنا، لكننا نجد أنفسنا نسير في دائرة العمل على تحقيقها، دون وعي.

لا يزال سكان منطقة (ج)، يعملون جاهدين من ساعات الصباح الباكر، ويضعون أهدافاً نصب أعينهم، ويسرون في مسيرة تحقيقها، وهم لم يفكروا بشكل فردي أو جماعي، لماذا نريد تحقيق هذه الأهداف؟، فمعظم الوقت يفكرون بطريقة، ماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريد؟ وهذه أساليبهم في التخطيط والحياة، بشكل عام، ولكن البعض منهم يخرج من هذه الدائرة ليجد نفسه يسأل، قبل ماذا؟ وكيف؟ سؤالاً أهم وهو، لماذا أريد تحقيق ذلك الهدف؟.

دعونا نرجع لنتخيل نظرية كفتي الميزان، في تحقيق النجاح والفشل، ونعتبر أن النجاح هو الكفة اليمنى للميزان، والفشل هو الكفة اليسرى للميزان، وسنفترض أن النجاح إسمه منطقة (أ)، والفشل منطقة (ب)، وبناءاً على ماسبق، ستكون لدينا ثلاثة مناطق للحياة وهي:

  • منطقة (أ) منطقة كفة الميزان اليمنى، يعيش فيها الناجحين
  • منطقة (ب) منطقة كفة الميزان اليسرى، يعيش فيها الفاشلين
  • منطقة (ج) منقطة ذراع الميزان، يعيش فيها الناس في حالة تنقل بين (أ) و (ب)

وهنا يمكننا أن نعيد النظر في النجاح والفشل برمتها، فالحقيقة أن الناس تعيش في منطقة (ج) مدة زمنية أطول من حياتهم في منطقة (أ) أو منطقة (ب)، لأنهم يتحركون بين الكفتين في الميزان، ومعظم وقتهم يقضونه على ذراع الميزان.

التصور الجديد للنجاح في الحياة، هو أن تعيش في منطقة (ج) على ذراع الميزان، وأن تكون متأكداً أنك تتحرك بإتجاه كفة الميزان اليمنى، وهذا يعني أنك برغم حياتك على ذراع الميزان، إلا أنك تستمع بكل ما يحيط بك، لأن وجهتك وهدفك وطريقك الذي تسلكه، يقترب من منطقة (أ) منطقة الحياة السعيدة للناجحين، وحتى إن وصلت إلى هذه المنطقة فحتماً سترجع بعد قليل إلى ذراع الميزان، لتحاول من جديد أن تكون في منطقة (أ)، وما يهمنا هنا، إدراك أهمية حياتك التي تقضيها معظم الوقت على ذراع الميزان، وقرارك يصنع واقعك وغالباً هو ما يصنع مستقبلك أيضاً، فالذين يعيشون على ذراع الميزان، هم الغالبية العظمى، وهم يفكرون ويطمحون أملاً الوصول إلى منطقة (أ) لكنهم لا يشعرون بالسعادة، لأنهم قرروا، أن يكونوا سعداء عندما يصلون إلى منطقة (أ)، وللأسف حتى وإن حققوا أهدافهم وأصبحوا ناجحين، فمدة إقامتهم في منطقة الناجحين، منطقة (أ) أقل بكثير من حياتهم على ذراع الميزان.

معظم الوقت يعيش الناس على ذراع الميزان، وجميعهم يأملون ويطمحون الوصول إلى منطقة (أ)، لكن كثيراً منهم، يسيرون عكس الإتجاه، وهذا يعني أنهم يتوجهون بطريقهم نحو منطقة (ب)، التي يعيش فيها الفاشلين، وبرغم أن سكان منطقة (ج) قليلون، إلا أن الناس الذي يعيشون على ذراع الميزان بإتجاه منطقة (ب) هم أغلبية للأسف، لأنهم قرروا تأجيل سعادتهم حتى يصلون إلى منطقة (أ) فتتغير اتجاهات مساراتهم وهم لا يدركون ما الذي يحدث فعلاً.

في مقال سابق، كان يجب على سؤال، لماذا لن تعيش سعيداً؟ كان الموضوع يدور حول أهمية تحقيق الرضا، والإيمان بأن كل شيء ممكن في الحياة، ولكن نحن بحاجة إلى الرضا، بكل النتائج التي نقف عندها اليوم، حتى نكون سعداء اليوم وغداً ولا نؤجل حالة الشعور بالسعادة إلى أن يتحقق الهدف كذا أو كذا، وفي مقال، على ذراع الميزان - الحياة في منطقة (ج)، أؤكد على ذات المفهوم الحقيقي، بأننا لن نكون ناجحين طوال الوقت ولا فاشلين طوال الوقت، ولكننا نسعى لأن نكون ناجحين، وهذا يتطلب منا أن ندرك بأننا نعيش على ذراع الميزان، ونحن بحاجة إلى التأكد باستمرار أننا نتوجه في طريقنا إلى منطقة (ب)، وهذا يكفي لأن تكون الحياة على ذراع الميزان، حياة مرضية وسعيدة.

يفشل البعض ليس لأنهم لا يسعون للنجاح، ولا لأنهم أقل قدراً أو قدراتهم أدنى من غيرهم، وليس لأن أهدافهم ضعيفة لا تحركهم ولا تحفزهم للنجاح، يفشل البعض لأن أهدافهم كبيرة جداً، أكبر من قدرتهم على التركيز، أكبر من قدرتهم على التحمل، فيسقطون في الطرق من ثقل الحمل، وكان بوسعهم أن يضعون أهدافاً أصغر، فيعيشون حياتهم راضين سعداء مستقرين، ويحققون النجاح بطرق أقصر من تلك التي كانوا قد سلكوها، والحياة على ذراع الميزان، تتطلب منا تركيزاً حتى لا نسقط في الطريق، ولأن المسارات مزدحمه، والحركة سريعة، وهذا ما يجعل الناس غير قادرين على الاستقرار في منطقة (ج)، لكنني أدعوا إلى الإستقرار النفسي، وهذا ما يشعرنا بالرضا، ويمهلنا وقتاً سعيداً نقضيه في الطريق، قبل الوصول إلى منطقة (ب)، وهذا هو الأهم لأن الحياة التي نعيشها في منطقة (ب) قصيرة، وهذا يتطلب أن نستمثر الوقت الأطول لحياة سعيدة، وهو الوقت الذي نقضيه في المنطقة (ج).

أشرف بن محمد غريب
07 سبتمبر 2016

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية