كلمات غيرت التاريخ

نقرأ بين الحين والآخر عبارات شاردة، تصور لنا حلولاً سريعة، لتلك المشكلات العميقة في واقع مجتمعاتنا وحياتنا وظروفنا وعالمنا ودولنا، وكبر منطقة التأثير أو صغرها، سيبقى الأثر أقل بكثير من ذلك التصوير الهش.

تلعب العديد من أدوات التعليم اليوم دوراً هاماً في تقديم المعرفة بأشكال متعددة، فالرسوم البيانية، وخرائط المعرفة، والانفوجرافك، كلها أدوات رائعة في توضيح العلوم والمعارف، ولكنها لا يمكن بأي حال، أن تغني عن شرح المحتوى بالطرق التقليدية، أو على الأقل لن تغني عن وجود المعلم، وهذا ما أصبح يتجاهله البعض.

فكثيراً ما نتبادل تلك الرسومات والخرائط والخلاصات، وكأننا جدلاً نفترض أن رسمة بسيطة تتكلم عن القيادة، من شأنها أن تضيف إلى مخزون معرفتنا ومكون ثقافتنا الشيء الذي ربما لا نراه كبيراً ولكننا في الوقت ذاته لا نستهين بقدره وحجمه، وأنا أرى أنه لا كبير ولا صغير وإنما خطير جداً.

لو قسمنا الناس إلى ثلاثة أصناف من حيث المعرفة بالشيء، بغض النظر عن ماهو الشيء الذي نتحدث عنه، وقلنا أن هنالك من يعرف الشيء  معرفة جيدة، وهنالك من لا يعرف عن الشيء شيء، وهنالك من لا يعرف عن الشيء شيء وهو يظن أنه يعرف عنه شيء، فالأول جاهل، ولا يشكل خطرا على نفسه أو على غيره، فهو لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، والثاني يفيد نفسه ومن حوله، لأنه يعلم ويعلم أنه يعلم، أما النوع الثالث فهو لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم، وربما يظن أنه يعلم، وهنا مكمن الخطر.

مجازاً نقول أن كلمات غيرت التاريخ، لكن الكلمات كلها لا تغير، وإنما الأفعال هي ما تغير، والتتابع والتنفيذ والتنظيم والإدارة والرقابة، والجهد والصبر والتحدي والمقاومة، ودروس كثيرة نتعلمها وننسى جزء منها ونجهل أجزاء منها وهكذا، تتغير الدنيا والأحداث والتاريخ، بوقائع لا يمكن أن تختزل بكلمات.

أكاد أجزم أن كل القصص التي المبنية على خرافة، وكان هائما نائما حتى سمع كلمات حركته من الداخل، فتغير وانقلب رأس على عقل، وكأنها خرافات تاريخية أو أساطير صينية، لأن ذلك الذي تغير بفعل كلمات، كان جاهدا عاملا مجتهدا مدركا واعيا، وكان في الوقت ذاته مستعدا متأهبا فلما جاءت الكلمات وجدت لها بيئة تأثير فتأثر، فالفضل لا يعود للكمات وإنما لذلك الشخص الذي تأثر بواقع تأهبه واستعداده.

في العالم اليوم، دول بأسرها تعاني مشكلات غريبة، وكثيرة ويمكن حلها، من واقع خبرات البشرية في دول أخرى، وهي هي هذه الدول، فيها من العلماء والحكماء والأدباء والدعاة والوعاظ والمرشدون، والمثقفون والاعلاميون الكثير والكثير، ويزيد عليهم الفنانون والمأثرون والمشاهير والحكاواتية، وكل يوم تقال كلمات وكلمات وخطب ودروس ومع ذلك لا يتغير واقع تلك المجتمعات ولا يتحرك بسرعة تتناسب ولو جزئيا مع حجم الكلام الذي يدور في أفق تلك المجتمعات.

لو قسنا الأمور بالمسافات فليست أسبانيا ولا فرنسا أو أوروبا بعيدة عن المغرب العربي بكل دوله، المسافة جغرافيا قصيرة جدا، لكنها علميا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ربما لا يمكن قياسها، أنا شخصيا أعتقد أن المسافة أكبر بكثير جدا من أن تقاس، وأنه من الظلم قياسها بغير القياس الجغرافي.

وماجاء في قياسات الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد بين اوروبا والمغرب العربي ما هو الا مثال، ولو تحركنا في العالم، نجد أن مصر والأردن ولبنان وسوريا وما تبقى من أثر فلسطين، ملاصق تماما، للنظام الإسرائيلي، فجغرافيا، الحدود مشتركة، ولكن علميا واقتصاديا وتنظيميا وصحيا وسياسيا وأكمل القائمة على الصعيد الإجتماعي والحضاري إلى أن تنتهي، تجد المسافات طويلة وبعيدة جداً، وأيضاً هذا مثال توضيحي، وكلما تحركت في العالم تتكرر هذه القضية.

التغيير يبدأ من الداخل، ولكن ما أعنيه هنا ليس الداخل الذاتي أو الفردي ولا الداخل الجمعي والإجتماعي، وإنما أتحدث هنا عن الداخل المتوافق مع العمل والدروس والتجربة والخطأ والمحاولة والمقاومة والتعاون وأشياء كثيرة غير الكلمات، فمعرفة الحقيقة لا تعني أن الحق ظهر والباطل زهق.

نسمع كثيراً قصة قصيرة، وفلان سافر ودرس وتخرج ثم عمل وماشاء الله، استطاع أن يجمع مالاً ويبني إستثمارات، وهو اليوم يجلس لا يحتاج إلى عمل، فاستثماراته تنفق عليه وتكون له تدفقات نقدية متراكمة، تكفيه وتزيد زيادات تمكنه من الاستثمار من جديد، ولو سألنا ما حجم الدروس والجهد والعمل والمحاولات والأخطاء والنجاحات والاخفاقات التي مر بها فلا، لوجدنا الذهب الحقيقي الذي غير حياته.

لا تصدق بأي حال أن هنالك أشياء بسيطة جدا تغير الدنيا، ربما تكون هنالك قواعد بسيطة إن سرت على نهجها وصلت، وإن عملت وفق إطارها نجحت، ولكن السر الحقيقي ليس في تلك القواعد البسيطة وإنما في المداومة المستمرة والمواصلة الفعالة في تطبيق تلك العادات وممارسة تلك الأعمال هو ما يمكنك من تحقيق النجاح.

هنالك كلمات تساهم في تحقيق نوع من التعليم، تساهم في تغيير حالات من الحياة جزئية، تتكامل مع اجتهادات وأعمال ومحاولات ومقاومات، وضف الى ذلك أشياء كثيرة واشياء كلها ستعمل معا ليتحقق بعد ذلك التغيير، إن العالم لم يتغير من واقع كلمات، وإن كانت الكلمة قوية، وقوية التأثير جدا، ولها آثار فائقة الوصف، تبقى الحياة، تتغير وتتحرك بواقع الاجتهاد والعمل وليس بواقع الكلمات فقط.

نحن بحاجة اليوم إلى إدراك واقعي لأن نعمل بشكل أفضل وأكبر من أي وقت مضى، ونحن بحاجة اليوم إلى إدراك أن الاختصار ينفع بعد الشرح والإيضاح، وإن الاختزال مفيد مع التفصيل والاسهاب، وأن السرعة التي نتحرك بها اليوم في عالم الأعمال والاتصالات والتجارة والتقنية، لا يمكن أن يجعلنا أكثر سرعة في التعلم، وإلا كيف يمكن أن تساهم كل التقنيات الحديثة في تخريج طالب من المرحلة الجامعية بعد 6 أشهر وقد أنهى دراسته العلمية والأكاديمية والعملية كطبيب ممارس، ربما إن حدث ذلك لن يجد هذا الطبيب أي عمل، لأن الناس لن تضع نفسها تحت يد خريج مهما كانت التقنية التي علمته، ليمارس عليها تجاربه المؤثرة على حياتهم.

ما يغير التاريخ هو العمل، والإنسان الذي يريد أن يكون في مكان أفضل عليه، أن يقدم التضحيات ويعمل ويمارس ويقاوم ويجرب ويمر معه العامل الزمني بواقع التجارب ويتحقق من النتائج ويعدل ويطور، فهو يبدأ بأهداف ثم خطط وبعدها تنيظم ورقابة وتغذية راجعة وتطوير يحقق النتائج النهائية، وهذا لا يمكن أن يكون بكلمات فقط.

أشرف بن محمد غريب
تورنتو 21 أكتوبر 2016

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية