قوة المعرفة وضعف التجربة

كانت المقالات التي تتصدر الصحف الاقتصادية في اواسط الثمانينات من القرن الماضي، تناقش في كثير من الأوقات موضوعات تتعلق بقوة المعرفة، وكنا في ذلك الوقت مع بداية الاحتكاك المباشر مع أجيال من الكمبيوترات، نرى أن قوة المعرفة مرتبطة في إطار تقنية المعلومات.

ثم تغير الحال تماما بعدما توسطنا العقد الأول من القرن الحالي، ففي عام 2005 تقريبا لم يعد هنالك من لا يحمل هاتفا نقالا، واصبحت الأنترنت متوفرة في كل بيت على الاقل انا اتحدث عن البيوت العربية، واصبح من الغريب عدم وجود جهاز كمبيوتر في بيت ولا اتحدث عن جهاز كمبيوتر فحسب بل ومتصل بالانترنت، وعندها اصبحنا وكاننا نربط بين قوة المعرفة وقوة الاتصالات أو قوة الانترنت.

يتقدم الزمان سريعا فما كان حلما في الماضي اصبح حقيقة اليوم، وتحولات العالم المتسارعة في الاقتصاد والصناعة والتقنية جعلتنا اليوم نستطيع ان نمتلك الكثير من مصادر المعرفة التي كان صعب الحصول عليها من غير مشقة ولا عنا لكننا نقع دائما في مصيدة ربما تختلف اشكالها من زمان لاخر الا انها دائما ما تكون موجودة في كل زمان ومكان.

تشكل المعرفة قوة حقيقية تدفعنا اليوم الى البحث في علوم جديدة اصبحت هاجس العالم مثل التنقيب عن المعلومات، وإدارة المعرفة، وأمن المعلومات، وكثير من التخصصات التي ما كانت في سنوات قليلة ماضية، ولا تزال المعرفة بقوتها تشكل ثقلا مهما في حياة الناس، فاليوم حتى الدول التي لا تمتلك للموارد الطبيعية، باستطاعتها التقدم والنمو من خلال استثماراتها في التعليم والمعرفة.

اليوم تشكل عائدات الشركات التي تعتمد على بناء المعرفة اكثر بكثير من تلك المصانع الكبيرة التي يمتلكها الأثرياء، فمن يمتلك مصنعا للمواد الغذائية اليوم، لا يحقق عائدات ارباح تقارن بما تحققه شركة مثل شركة فيسبوك أو انستجرام ويوتيوب وتويتر، والأمثلة كثيرة جدا، نهايك عن التحديات التي تواجه الصناعتين بالمقارنة.

كيف يستطيع كل فرد أن يحقق استفادة قصوى من قوة المعرفة؟ هذا السؤال الأهم والذي يحتاج إلى إجابة دقيقة تمكننا من تحقيق استفادة واضحة على صعيد الأفراد، بعيدا عن التنظير على مستويات الدول، فكثيرا ما قرأت عن تجربة فنلندا وكيف أن اليابان تمتلك اقتصادا قويا بالمعرفة بينما لا تمتلك اي من المواد الخام التي تستخدمها في صناعاتها، يبقى السؤال الأهم هو كيف استطيع كفرد تحقيق عائد واستفادة من هذا الامر.

بما أننا اليوم نعيش في زمان مادي فعلينا أن نعيد قياس المعرفة بالمال، بمعنى أن نقوم بتقييم كل معرفة تقع تحت أيدينا بشكل مادي، فالمستشار والمدير المالي الذي يحقق للشركات عوائد استثمارية عالية تقدر بالملايين، ولا يمتلك في رصيده ولا مليون واحد حتى، يعتبر ناجحا على الصعيد المؤسسي، لكنه بكل تاكيد فاشل على الصعيد الشخصي، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس.

تمرين عملي، أكتب قائمة من ثلاثة أعمدة تضم كل المهارات والمعارف التي يمكنك الاستفادة منها ماديا، واكتب مقابلها كم تساوي هذه المعرفة تقديرا، وبالمقابل عدد الساعات، فان كنت تعرف قيادة السيارة مثلا، فكم يشكل عائد استثمار معرفتك في قيادة السيارة مقابل 5 ساعات عمل يوميا، وان كنت تعرف كيف تصنع قالب من الكيك، فاكتب كم يشكل عائد استثمار ساعتين يوميا من تشكيل قالب الكيك ماليا، وهكذا.

تستطيع من عمل هذا التطبيق اكتشاف الفرق بين كثير من الفرص المتاحة لديك في بيئة العمل المحيطة بك وكيف ان هنالك فرص تشكل عوائد افضل من فرص اخرى، ولكن عليك أولا تحديد مسارات عمل من خلال تمرين عملي بكتابة القائمة ومن ثم تجربة هذه المسارات، حيث ان النظري يختلف عن العملي تماما.

كنت ولا ازال أؤيد بشدة تجربة المشاريع الصغيرة والخوض في تجارب متنوعة ومتجددة واخذ نتائج واقعية، فهذا افضل بكثير من الوقوف على عتبة البطالة متحججا بانعدام توفر راس المال، او ان السوق بات محكوما للعبة الكبار فقط، لاتزال دائما هنالك فرص للكبار والصغار، ولا نزال لم نستخدم الكثير من المعارف التي نمتلكها في حياتنا.

تكسب امرأة من صناعة المربى وتوزيعه على نطاق ضيق قدرا من المال أقل أو أكثر من شخص كتب هذه الوصفة في كتاب ونشره في المكتاب وهو يشكل ربحا أقل أو اكثر من آخر قام بعرض هذه التجارب على برنامج تلفزيوني والثلاثة قد يشكلون عوائد اقل أو اكثر من شخض استطاع اقناع صاحب مال استثمر في فتح معمل لصناعة المربي وهكذا نجد أن معلومة صناعة المربى قد تم الاستفادة منها باشكال متعددة باضافة معلومات جديدة كل حسب مجاله.

نحن بحاجة اليوم للأخذ بزمام المبادرة والبدء في وضع خطط بسيطة تمكننا من تحويل المعرفة الى منتج او خدمة، وتراكم الخبرات في تجارب متنوعة ومتجددة تمنحنا فرص كبيرة للخروج من دائرة العجز المالي أو الاقتصادي، واعتقد أن مؤسسات الدول العربية ووزاراتها لم تنطلق انطلاقة دول صغيرة في اوروبا لان المبادرين في الوطن العربي اقل فتبقى دائما هنالك فجوة بين الواقع والمأمول.

قوة المعرفة تكمن في كيفية استثمارها على الصعيد الشخصي والاجتماعي والمؤسسي، ولا تقف عند حدود التنظير، علينا البدء فورا في مشاريع عمل صغيرة باهداف ربحية او خيرية او تعاونية أو تنموية أو بحثية أو تعليمية، بغض النظر، نحن بحاجة الى البدء في تنفيذ المعرفة واكتساب الخبرات من التجربة، فما نتبادله في مجالسنا من احاديث وحكايات أقل فائدة من تعظيم قدرتنا على تحقيق الحرية المالية، واستثمار مواردنا المتاحة اليوم بكل اشكالها التقنية والمالية والاجتماعية والعلمية والثقافية والصحية.

أشرف بن محمد غريب
الرياض 7 اكتوبر 2015

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحاسة الثامنة

من كسر بيضة الديك؟

سر نجاح اكبر 100 شركة سعودية